ما هي حقيقة الرياضيات؟ وهل تجسّد الرياضيات الحقيقة الأبدية كما يقول الفيلسوف اليوناني أفلاطون؟ أم هي لغة الطبيعة كما يقول جاليلي، الذي اعتقد أن الطبيعة هي سِفر مكتوب بلغة الرياضيات؟ أم هي لعبة من صنع الإنسان، كما اعتقد آخرون؟
وإنك تجد الرياضيين الذين اهتموا بالإجابة عن هذه المسألة ينقسمون أيضاً حولها إلى ثلاثة أقسام، فمن قائل ان الرياضيات هي حقيقة مطلقة علوية، كونية، وتحمل صفة الصدق الأبدي. ومِن قائل إنها ما يوجد في الطبيعة من قوانين، وإن الإنسان لا يفعل سوى أن يكتشف هذه القوانين. ومِن قائل إنها من صنع الإنسان.
وينضم ديكارت إلى وجهة النظر الأولى، حيث رأى أن للرياضيات وجود موضوعي مستقل عن الطبيعة وعن الإنسان، وإن كانت تستمد شرعيتها من وصف الطبيعة واكتشاف قوانينها. ويؤيد جيمس جينس هذه النظرة ويقول إن المعماري العظيم الذي صنع الكون، قد بدأ يظهر الآن، وهو عالم رياضيات.
وكما يختلف الكبار في مصدر الرياضيات أو طبيعتها، فإنهم يختلفون في ماهيتها أيضا. فإذا كنت تسأل ما هي الرياضيات؟ فإنك لن تجد الكثيرين ممن يسرعون في اعطاء الجواب.
ويصر بعض الناس:ً أن الرياضيات لا تعريف لها. ويقولون مثلاً: إن الرياضيات لوحة مطرزة من الصيغ، التي يمكن خلقها من مجموعة من البديهيات الأولية، طبقاً لقوانين محددة (نظر مجلة الثقافة العالمية ـ الصادرة في الكويت، العدد 58، ص155). ولكن هذا التعريف من الشمول بحيث أنه يصلح تعريفاً للموسيقى أيضا.
.
هذا ملخص رأي بعض العلماء:وإذ سُمح لي أن أدلي برأيي بهذا الصدد أقول: إن الرياضيات هي نتاج بشري صحيح، ولكنها رهن بالشرط البشري. أي أنها ليست نزوة أو رفاهية فردية أو جماعية، يقوم بها علماء الرياضيات، فالتفكير الرياضي يجاري حقيقة الطبيعة، ويرصدها ويحاول تفسيرها ووضعها في نظم وقوانين، وهي ليست مجرد قانون قواعدي، كما يقول مؤلف كتاب الرياضيات للمليون، بل هي تجربة حِسيَّة نتلقاها من الطبيعة و 2= 1 +1 ليس لأننا اتفقنا هكذا، كما اتفقنا أن جمع كلمة كتاب هي كُتب، بل لأننا نعيش في عالم فيه يتحقق 2=1 +1 .
وربما كان غيرنا في عالم غير عالمنا، يعيش في عالم فيه لا يتحقق فيه 2= 1+1 ، لأنه كلما التقى شخص مع شخص آخر ، اختفى الإثنان، أما في عالمنا فهما لا يختفيان، بل يبقيان كتجربة حسية ماثلة للعيان.
ثم إن توافق الرياضيات مع ظواهر الطبيعة ليس صدفياً، فنحن نتاج الطبيعة، وتنمو أجسامنا وعقولنا كما تنمو الشجرة في الغابة. يقول تسفي يناي في كتابه "البحث عن اللانهاية": إن العلاقة الوثيقة بين الطبيعة والرياضيات عجيبة بحد ذاتها. ففي نهاية الأمر، صُنعت الرياضيات في رؤوسنا، وهي مشغولة أساساً في منطقها الداخلي، فمن أين هذا التوافق البديع بينها وبين ظواهر الطبيعة؟
ويضرب يناي لذلك مثالاً على هذا التوافق بين الرياضيات والطبيعة من عالم الأحياء. فذكر الذباب يستطيع تلقيح عدد كبير من الإناث، في موسم التلقيح، ولكنه إذا فعل ذلك مع كثير من الإناث، فإن الأبناء المولودين قد لا يكونون أولاده، ولكنه إذا اكتفى بأنثى واحدة فقط، فإنه سيضمن أن يكون أبناؤها أبناءه أيضاً، ولكنه سيفوِّت على نفسه الفرصة أن يكون أباً لأبناء آخرين. وهذا تناقض مرير يقع فيه الذكر. ما هو أقصر وقت مطلوب لأن يبقى الذكر الواحد فوق الأنثى الواحدة، لكي يضمن لنفسه أبناءها؟ ومن ثم يطير إلى أنثى أخرى؟ لا يعرف ذكور الذباب الحساب، ولم يتعلموه في المدرسة، ولكن العلماء حسبوا ووجدوا أن هذا ينبغي أن يكون41 دقيقة على الأقل، ويا للمفاجأة، فقد كان الوقت الذي يقضيه ذكور الذباب هو 36 دقيقة!
وأخيراً فإن لدي كلمة أقولها بالنسبة لمصدر الرياضيات، ويُخيَّل إلي أن الرياضيات هي تزاوج بين نوعين مختلفين من الكائنات: الأعداد من ناحية، والأشكال الهندسية من ناحية أخرى، وقد نفذت الأشكال الهندسية إلى التجربة الإنسانية من خلال اهتمامين رئيسيين، هما الزراعة والبناء. أما الأعداد فقد خلقها الله كما يقول كرونيكر.