*من الذي قتل مسره وميسره؟؟؟
من الذي قتل مسرة وميسرة؟؟
قصة واقعية موثقة الأحداث بأدق تفاصيلها تروى على لسان
والد مسرة وميسرة
بقلم الدكتور : وليد أحمد فتيحي
طبع هذا الكتاب ضمن برنامج المركز الطبي الدولي للتعليم
والتثقيف الصحي وخدمة المجتمع
ويقع في 20 صفحة
مقاطع من القصة نقلتها أقف وإياكم عليها :
لا أدري كيف أبدأ رواية هذه القصة المؤلمة المليئة بالمواقف والعبر إنها قصة واقعية
موثقة الأحداث بأدق تفاصيلها
اليوم هو 25 من شهر رمضان المبارك 1429 ه من شهر سبتمبر لعام 2008 م
كنت في عيادتي عندما تلقيت مكالمة من رئيس الأطباء يخبرني أن مسرة البالغة من العمر سبعة أعوام فقط تبفظ أنفاسها الأخيرة وأن تواجدي مع أهلها هام جداً
فاعتذرت عن باقي مرضاي في العيادة وأسرعت لغرفة العناية المركزة لأرى المشهد الذي لازال عالقاً في ذهني كلما أعدت شريط أحداث ذلك اليوم
توقفت لأرى وأعتبر بذلك الوالد الذي فقد ابنه الأول ميسرة البالغ من العمر ثلاث
سنوات منذ سويعات قليلة وهاهو الآن يودع ابنته ميسرة
قذغ الله في قلبي ذلك اليوم أن دوري أكبر وأبعد من مجرد طبيب أو رئيس تنفيذي
لمستشفى وأن هناك واجباً أوجبه الله علي وأنني مكلف بأن أشرك المجتمع بأسره
بعرضي هذه القصة عليهم وبسردي تفاصيلها الدقيقة لهم
وقررت أن أغوص في أعماق القضية وأعيش مع والد ميسرة ومسرة قصته كلها
منذ اللحظة الأولى التي حملهما فيها بين يديه وقد دخلا الدنيا إلى اللحظة التي حملهما فيها بين يديه وأدخلهما القبر وتركهما هناك .
ووافق الأب وأخذ يسرد القصة بتفاصيلها :
لا أدري من أين أبدأ ... هل أبدأ من أول صرخة من فمها أطلقتها ..
أو أول لحظة وقعت عيناي عليها
ولدت ميسرة ابنتي الثانية وسبحان الله كانت ولادتها مسرة لنا منذ أول يوم دخلت فيه الدنيا فقد وصلنا إلى المستشفى لإجراء الفحص
العادي ولم نتوقع الولادة .فتركت زوجتي مع والدتي ورجعت للعمل
وطلبت منهم الإتصال في حالة الإنتهاء من الفحوصات وكانت الساعة الثانية عشرة ظهراً وصليت الظهر ووجدت مكالمة على جوالي فاتصلت فقيل لي ولدت مسرة فعدت سريعاً للمستشفى لأجد طفلة قد آتاها الله جمالاً وقد نزعت إلى أخوالها بعيونها الزرقاء
وشعرها الأشقر بخلاف أختها الكبرى فريال التي آتاها الله جمالاً
لكن من نوع آخر وأسمينا هذه الطفلة مسرة لما أدخلت على قلوبنا
من الغبطة والسرور منذ يومها الأول .
تحدثت مسرة في سن مبكرة وعندما أتمت سنة كانت تتكلم بطلاقة ماعهدناها لدى الأطفال .
عندما أسترجع الذكريات الجميلة أتذكر كيف جمعت مسرة من المتناقضات ما يزيد من حبنا لها فبالرغم من ذكائها الحاد واستغراب الناس لإدراكها لخفايا الأمور وماوراء الأشياء إلا أنها كانت لينة العريكة سهلة الإقناع ومثال ذلك عندما كانت في الثانية من عمرها وحضرت حفلة في مدرسة أختها الكبرى فريال وقد عرضت على الاطفال تمثيلية قصة الراعي والغنم وكان الذئب يأخذ كل يوم غنمة حتى نصب له الراعي فخاً وأمسك به وأخذ يضربه فقامت وسط القاعة صارخة : ( لا تضربوه .. لا تضربوه ) فأوقف عرض المسرحية واقتربت منها المدرسة وقالت لها لا تخافي حبيبتي أليس هذا هو الذب الذي يأكل غنم الراعي ؟ فأجابتها : نعم ثم سألت مسرة المدرسة على مرأى من الناس وهل يأكل الذئب الدجاج كذلك فأجابت المدرسة ( نعم ) فقالت مسرة ( وأنت مش تأكلي الدجاج كمان ) فبهتت المعلمة وضحك جميع من في القاعة من تعليقها الذكي .
وفي يوم سألتُ زوجتي ماسبب استعجال مسرة في حفظ القرءان فطلبت منها أن تستفسر من مسرة وتستدرجها في الكلام لتعرف منها ماتريد من وراء هذا الإستعجال هل تنتظر منا مكافأة أو هدية أو غير ذلك ؟ وأي إجابة تلك التي أجابتنا بها مسرة قالت لنا ( اللي يحفظ القرءان ربنا يلبسه تاج الملك ويلبس أمه وأبوه ولو أختي فريال حفظت قبلي حتلبسكم التاج قبلي وأنا ما أبغى أنا أبغى التاج حقي هو اللي تلبسوه الأول ) .
والله ما سررت في الدنيا قدر ما سررت بتلك الكلمات واستمرت مسرة تجلب لنا السرور بشتى أشكاله وصوره وألوانه فقد حباها الله ذكاءً حاداً وسرعة في الحفظ عجيبة فكانت تحفظ صفحتين في اليوم الواحد حفظاً كاملاً ليس فيه خطأ واحد وكان لها تفسيرها الفطري للآيات – تلك الفطرة الحية التي هي خير ما يتجاوب مع كلام فاطر السموات والأرض ففي يوم جائتني أختها فريال وقالت لي : ( يعني إيش قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) يعني ربهم معاهم في الغرفة سمعهم ) فأجابتها مسرة وهي مستلقية : ( يعني أفهمي يافراولة إن الله يسمع كل شيء حتى لو كنتي تحت السرير يسمعك )
كنا في يوم نجلس ونشاهد التلفاز فذكر حديث السبعة الذين يضلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وتحدثنا عن أناس يطردهم الله من رحمته قالت : ( أيوه الملاعين ) قلت لها ( الملاعين مين ) ؟ الشياطين ؟ قالت : ( لا ) قلت لها ( يعني إيش ) ؟ قالت ( دحين بقولك ) وقعدت تقلب في التلفزيون ولكن لم تجد ضالتها ونسيتُ أنا الموضوع وبعد نصف ساعة أو يزيد وجدتها تصرخ علي فنادتني فأتيتها فوجدتها تنظر إلى قناة تعرض حديث : ( ( لعن الله الراشي والمرتشي ) قالت لي : ( هدول في منهم ملاعين ) هم دول الملاعين زي كده عرفت يا بابا مين هم الملاعين الملاعين )
وأنا أقف بين يدي طفلتي في ذهول واندهاش هل كانت طفلتي حقاً تعلم معنى الراشي والمرتشي ! أو أن الذي أنطقها هو فاطرها وهل يجري الله الحق إلا على ألسنة مثل هذه القلوب الطاهرة وهذه الفطرة السليمة التي لم تنتكس بعد
ما زالت كلمات صغيرتي وضحكاتها تدور في أذني التي ما أزال أسمع صداها في
أرجاء بيتي .
وتمر الأيام وجاء 4/4/1427 ه وأكرمنا الله بمولد ميسرة والذي كان كالتوأم لأخته مسرة وإن كان فارق السن بينهما أربع سنوات
وكان لميسرة كذلك روح عجيبة وابتسامة عريضة لا تغادره فكان مليء بالحياة
وكان ميسرة كأخته مسرة يحب العطور أذكر أنني دخلت يوما ووجدت البيت مفعماً بالعطر ووجدت مسرة وكان عمرها آنذاك خمسة أعوام وقد أفرغت عودة كانت لي أثيرة وقبل أن أنطق قالت لي : ( أنت مو قلت إحنا كلنا مع بعض في كل شيء ) فسكتُ
طوال شهر شعبان وميسرة ومسرة يهيئون أنفسهم للعيد الذي لم يروه فكل يوم تفرش مسرة ملابس العيد وتخطط لأيام العيد متى تلبس ملابس العيد ومع ماذا ؟
وميسرة وهو لم يبلغ الثالثة بعد لا يستطيع الوصول إلى ملابسه إلا الملابس الداخلية
فيخرجها كذلك ويفرشها مثل أخته ويسميها : الجديدة . وظلوا طوال شهر كامل يخرجون الملابس ويحلمون بأيام العيد ونحن نعيش معهم أحلامهم ونشاركهم السعادة والغبطة والبهجة والسرور .
بعد إنتهاء صلاة التهجد عدت إلى البيت ووصلت الساعة الرابعة والنصف، وككل يوم يكون الأبناء نائمين فأتسحر أنا وزوجتي، ولكن اليوم كان مختلفاً عن باقي الأيام فميسرة ما زال مستيقظاً ولا يريد النوم ونشيط ويلبس البيجامة التي يسميها "النامة"، وجاءني وتعلّق بي بطريقة غريبة -غريب أمر ميسرة ومسرّة- كأن ميسرة كان يعلم أن هذه آخر ليلة سيقضيها معي ومع والدته فأراد أن يأخذ منها أكثر ما يستطيع ويعطي فيها والديه آخر سويعات له على وجه الأرض، فتسحّر معنا وبقي للفجر ثم ذهب للنوم، وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي يجري فيها ميسرة إلى أخته مسرّة وينام في حضنها، وتصف الأم بغرابة كيف نام في حضنها ووضع رأسه على صدرها ورجله على رجلها وأخذ يدندن كعادته وكأنه كان يعلم أنهما سينتقلان عما قريب سوياً إلى مكان واحد فبدأت رحلتهما سوياً في تلك الليلة، وجاءت الساعة الحادية عشرة صباحاً ووجدت ابنتي فريال البالغة من العمر عشر سنوات تقف على رأسي وتوقظني وهي تتكلم بصعوبة وتقول "أنا وماما وميسرة تعبانين"، فخرجت من الغرفة ولقيت زوجتي وأطفالي الأربعة على الأرض، ميسرة مطروح على الأرض وجهه شاحب وشفائفه زرقاء وزوجتي تمسك ببطنها وكلهمم يتقيأون، وفريال تترنح وتكاد تسقط من طولها وأنا في ذهول لِمَ لَمْ توقظوني من قبل؟!.. وعلمت أن الأمر حدث بسرعة فائقة وفي لحظات لم يعد لديهم قدرة على الحركة وكأنّمَا أصابهم الشلل، وكانت الحال كذلك بمسرّة وهي مطروحة في الصالة، فقلت في نفسي ليس هناك وقت، وهل الإسعاف سيأتي بسرعة؟! .. فحملت الإثنين الصغار وأمهم تتكئ علي وناديت إحدى أخواتي وهي طبيبة إستشارية أطفال. لا أدري كيف وصلنا إلى المستشفى؟! وصلنا الطوارئ وكل الذي يدور في خلدي هو تسمم وأقصى ما سيكون هو غسيل للمعدة، وكان ميسرة يتكلم وما زال في وعيه وإن كان مرتخي الأعصاب، وكان يصرخ ويبكي وما زال فيه قوة، وبدأ فريق الأطباء والتمريض في العمل وبدؤوا في وضع إبرة المحلول .. وفجأة ومن وضع النائم المتعب المرتخي العضلات قفز على طرف السرير ونظر إلى الباب كأنه رأى شيئاً أزعجه أو أن شخصاً دخل علينا فظننت أن أمه دخلت علينا، فنظرت بسرعة فلم أر أحداً دخل وأعدت نظري إليه فإذا بأعضائه كلها ترتخي فجأة وفي ثوان رأيت الفريق الطبي يحاول إنعاش قلب إبني بلا فائدة حتى أن الأطباء أنفسهم كانوا في ذهول لسرعة ما حدث، وعلمت بعد ذلك أن الأطباء قضوا وقتاً طويلاً في محاولة إنعاش القلب لإبني دون فائدة، ولكن الوقت مرّ بالنسبة لي كأنه دقائق وثوان، ولم تنزل عيني عن الشاشة التي فيها رسم دقات القلب لعل الحياة تدبّ مرة أخرى في إبني ميسرة .. كنت أبحث عن معجزة تنزل من السماء .. لم أكن اتصور أن هذا الوجه البريء يسكت عن الكلام، لم أكن أتصور في يوم من الأيام أنني سأقف مثل هذا الموقف .. لم أكن أتصور أن هذا الوجه البريء سيغيب عني وأنه سيسكت عن الكلام للأبد .. يارب .. يارب .. يارب. تمنيت أن أستطيع فعل شيء .. كل الذي كان في حيلتي هو الدعاء ومسح آثار الدم التي تخرج من أنفه وفمه وكنت أقول في نفسي دعها تخرج قد تكون هذه آثار حياة تعود.
عجيب أمر الإنسان .. كيف تختلف عنده المعايير وتنقلب الموازين بتغير الأحوال، والله إني كنت سعيداً في كل مرة يُصعقُ فيها قلب إبني الصغير بالكهرباء ويهتز كل جسده ويعود القلب يرتعش أمامي على الشاشة لأن ذلك يعني شيئاً واحداً أن هناك أمل .. أي صورة من صور الجنون هذه أن يتمنى والدٌ أن يُصعَقَ قلب ابنه بالكهرباء، ولكنها حال أب لا يريد أن يفقد إبنه، وبعد فترة من الزمن فقدت إدراكي بالزمن، ورأيت الدموع تنهمر في عيني الطبيب الذي ينعش قلب ميسرة فعلمت أن كل شيء قد إنتهى. لم أكن أتصور في حياتي أن أباً عاقلاً يقبل أن يشق صدر إبنه أو أن يفتح في رأسه فتحه ولكن شدة خوفي على فقدانه للأبد جعلني أتمنّى في تلك اللحظة أن يشقوا صدر إبني لأن ذلك كان يعني بالنسبة لي أنه ما زال هناك أمل أن يعود لي إبني ميسرة فلم أكن مهيئاً لوداعه، وفي لحظة نظرت فوجدته مرتخي الجسد بارداً وأنا أسأل نفسي أين ذلك الوجه الأبيض الأشقر الجميل؟!.. أهكذا ينتهي كل شيء في دقائق؟!.. كان يتكلم قبل ساعة!!.. كان يلعب معي البارحة!!.. لم يكن عند أحد إجابة عن الذي حدث؟! وكيف حدث؟!..
وانتهى كل شيء وغاب ميسرة عن الدنيا وودّعها .. علمت في تلك اللحظة أن باقي أفراد أسرتي في العناية المركزة، وتمنّيت أن آخذ ميسرة معي إلى هناك، يعلم الله أن تركي له في غرفة الطوارئ كان أشق وأصعب علي من أن أموت وأحيا ألف مرة وأُقَطَّع ويُفعل بي أي شيء، ولكني مضطر أن أترك طفلي الصغير ميسرة فباقي أسرتي كلهم الأربع في العناية المركزة لا أدري بحالهم.
كان علي أن أتماسك وأن لا أُبدي حزناً وأن أقف بجوار كلٍ من زوجتي وأبنائي الثلاث الباقين لي على وجه الأرض، فبدأت بابنتي فريال "درة أبنائي وبِكري" فوجدت حالتها مستقرة، وجريت لغرفة مسرّة فوجدتها في حالة مستقره وما آلمني إلا أنها ذهبت للمستشفى وهي صائمة ورفضت أن تفطر بالرغم من إصراري على أن تفطر وهي طفلة صغيرة لم يكتب عليها الصيام بعد، وما أن وصلنا إلى المستشفى إلا وشفائفها مشقّقة من الجفاف وترفض أن تشرب وإن كانت منذ وصولها تأخذ السوائل والمحاليل بالوريد، وجلست بجانبها وهي واعية والحمد لله وتتحدث إلي وإلى عمتها وأمضينا تقريباً ست ساعات على هذا الحال وقلنا الحمد لله بدأت الأمور تستقر وتهدأ، وإن كان هناك شيء في نفسي يجعلني غير مستقر وهو علمي بالإرتباط غير الطبيعي بين كلٍ من مسرّة وميسرة، وهي تتلقى الأكسجين والسوائل بالوريد وموصلة بأجهزة القلب والتنفس الصناعي ورسم تخطيط القلب وغيره من مستلزمات الرعاية المركزة، علمت بعد ذلك أن المستشفى قامت بالإتصال بمركز سموم جدة وبإرسال عينات لمعرفة نوع التسمم، وبحكم إتصال المستشفى المباشر بأمريكا فقد تم كذلك الإتصال ومناقشة الحالات مع مركز السموم في ولاية "كاليفورنيا" بأمريكا أجراها رئيس الأطباء في المستشفى، وقدم شرحاً إكلينيكياً متكاملاً، وبدأ الشك في أن هذه ليست حالة تسمم غذائي عادي، وقد يكون هناك سم قاتل فيه مادة الألمنيوم، وبالتحديد مادة فوسفيد الألمنيوم (Aluminum Phosphide)، وقد علمت مؤخراً أن ليس هناك وللأسف الشديد أي علاج لمن يستنشق الغاز السام الصادر منها، وبعد استجواب ومراجعة تاريخ اليومين الماضيين بالتفصيل بدأت الشكوك تزداد وتتضافر المعلومات التي تشير بأن ما نتعامل معه هو تسمم ناتج من إستنشاق غاز الفوسفين (Phosphine) السام المنبعث من أقراص مبيد الآفات فوسفيد الألمنيوم، وأن أحد سكان الأدوار السفلية في العمارة التي نقطنها قام بوضعه بشقته بكميات كبيرة وأغلقها وسافر إلى بلاده، من الذي يبيع هذه المادة السامة؟!.. من الذي أرخصها واعتمدها كمبيد حشري للأماكن المأهولة؟!.. من الذي يراقب هذه المواد السامّة ويأذن باستيرادها؟!.. من الذي وفّرها له بهذه الكميات القاتلة؟!.. من الذي يشارك في قتل أبنائنا بجهله أو إهماله أو جشعة؟!..
بقيت بجوار ابنتي مسرّة أمسك بيدها حتى جاءت الساعة التاسعة والنصف مساءً، وكانت كل الأمور تسير بشكل جيد وبجانبها معي عمها وعمتها "أختي الصغيرة وهي طبيبة في الجراحة"، وتسأل مسرّة "كيف حالك يا مسرّة" وأنبوب التنفس في فمها فتشير بأنها جيدة، وفي لحظة أصبحت تتكلم بسرعة وتشير لنا حتى ظننا والأطباء أنها حالة عصبية وهي تحاول أن تتكلم وتشرح لنا أنها ترى شيئاً وتطالع للأعلى .. نفس النظرة التي نظر ميسرة بها إلى باب الطوارئ، ونظرت ولم أجد أحداً ثم غاب عني تكرر المشهد مرة أخرى مع إبنتي مسرّة .. أخذت أحدّثها .. أقول لها يابنتي "مين فوق؟ مين قاعد يكلمك؟" وهي تريد أن تشرح، ولكنني لا أفهم لوجود أنبوب التنفس في فمها، وطلبت منها أن تمسك بيدي ففعلت ودخل مجموعة أطباء آخرين، وعلمت آنذاك أنهم أصبحوا قلقين بأنهم يتعاملون الآن مع هذه المادة السامة القاتلة والغاز القاتل والتي وللأسف ليس لها علاج في حالة إستنشاق كمية كبيرة منها. ودخل رئيس قسم التخدير وقال لي أننا نتعامل مع دورة ولكننا لسنا متأكدين منها بعد، ولم أرد أن أشركهم مخاوفي ولم يريدوا بعد أن يشاركوني في التفاصيل المشئومة، وكانوا متفائلين أنها ستعيش بالرغم من ذلك وسألنا مسرّة "كيف حالك يا مسرّة" فهزت رأسها وهي واعية فاسترخينا .. وفجأة سمعت نفس الجرس المشئوم .. لقد توقف القلب، لقد كانت تتحرك قبل دقائق تجيبني وتستجيب لي وتتكرر نفس الدورة مثل ميسرة وأصبحت أُشِير لهم على ثوبي وفيه دم إبني ميسرة وأقول لهم "ما نشف دم ميسرة .. بس خلوه ينشف".
وانتهى كل شيء .. غابت مسرّة كما غاب ميسرة في لحظات، ترى ما هذا الذي رآه ميسرة ورأته مسرّة لحظات قبل وداعهم هذه الدنيا؟! .. ليتني أسمع من صغيرتي ما هذا الذي رأت وليتني أسمع من صغيري ما هذا الذي رآه؟!.. يقولون لي إصبر .. وإني والله سأصبر، ولكن كيف أوزع صبري؟! .. أأوزعه على كلماتهم التي ما زالت ترن في أذني؟! أو على ذكرى ضحكاتهم ولعبهم بين يدي؟! أو على أحلامهم؟! .. أو أصبر على رؤية أمهما وهي تستقبل الخبر ونعيش ما بقي من عمرنا نداوي هذا الجرح العميق؟! .. أو أصبر وأنا أرى درّة قلبي وبكري فريال وهي تخوض الحياة وقد سُلبت أختها الوحيدة وأخاها؟! .. كيف ستعيش وتتعامل مع هذه المأساة؟! .. أمسك بجدار غرفة العناية المركزة أنظر إلى إبنتي مسرّة وقد أحاطها الأطباء من كل مكان لا لشيء إلا لحرقتهم وألمهم أن يتركوها، كالذي علم بعقله أن كل شيء إنتهى ولكن قلبه لا يطيق أن يذعن ويقبل .. وبقينا ننظر لها وقد انتقلت لربها، وحولها سبع أطباء يذرفون الدمع حزناً عليها.
*نقلتهااا من قلم..
*د.وليد احمد حسن فتيحي
* انتظر ارائكم بفاااااااارغ الصبر*